إدارة التعقيد بذكاء

كيف تبسط الأمور وتتخذ قرارات واثقة؟

في عالم متغير ومعقد، نشعر يومًا بعد يوم بتزايد التعقيد في حياتنا الشخصية والمهنية. لكن بدلًا من الارتباك، يمكننا إدارته بذكاء وتحويله إلى فرصة للنمو واتخاذ قرارات واثقة! 🚀

نحن في عصر يتسارع فيه التطور من حولنا، ونواجه مستوى متزايدًا من التعقيد دون امتلاك الأدوات المناسبة لفهمه وإدارته، مما قد يولد شعورًا بالعجز. وإن استمر هذا الشعور وتراكم، فقد يتحول إلى يأس واستسلام. يحدث ذلك لأن التعقيد يخلق إحساسًا بالغموض وفقدان السيطرة، مما يؤدي إلى التردد والقلق. سواء في بيئات العمل وريادة الأعمال أو في الحياة الاجتماعية، يمكن أن يكون التعقيد مصدرًا للضغط النفسي والإرهاق العقلي، خاصة عند مواجهة مشكلات متشابكة أو متغيرات غير متوقعة. وعندما يعجز الشخص عن فك شفرة التعقيد، قد يقع في فخ ذهنية “لا جدوى من المحاولة”، مما يحد من قدرته على الإبداع والمبادرة. لكن الحل لا يكمن في الهروب، بل في تطوير استراتيجيات واعية لفهم التعقيد وإدارته بذكاء، مما يحوله من عقبة إلى فرصة للنمو واتخاذ قرارات أكثر ثقة وفعالية. 💡🚀

التمييز بين التعقيدين

في الحقيقة نحن نواجه نوعين من التعقيد. تعقيد حقيقي ينبع من طبيعة الأمور نفسها، وتعقيد مصطنع نخلقه نحن، غالبًا دون وعي، من خلال عاداتنا وأنظمتنا. فهم الفرق بينهما يشكل خطوة أساسية نحو إدارة الأول بذكاء وتقليل الثاني لتسهيل حياتنا.

1- التعقيد الحقيقي: ضرورة لا مفر منها

التعقيد الحقيقي ينشأ عندما يكون الموضوع متعدد الأبعاد بطبيعته، وتتداخل فيه عوامل لا تنفصل عنه. وتلك صفة أغلب مكونات الطبيعة وديناميكية الحياة. فضعف القدرة على التعامل مع هذا النوع الأول تنجم عنه صعوبة مركبة محبطة (نحيل القاريء على مقال “الصعوبة : مفهومها وحقيقتها” لفهم مانقصده هنا).
  – أمثلة :
       > المشكلات العميقة مثل البطالة، التوثر النفسي، الانحراف والجريمة، الركود الاقتصادي، …
       > العلاقات الإنسانية في العمل، في الأسرة وفي المجتمع بصفة عامة.
       > المقاولة وريادة الأعمال

هذا النوع من التعقيد لا يليق بالعاقل أن يلغيه أو يتجاهله، لكنه يمكنه إدارته بذكاء.

2- التعقيد المصطنع : عقبة يمكن تفاديها

على عكس التعقيد الحقيقي، فإن التعقيد المصطنع ينشأ نتيجة إجراء ات غير ضرورية، أو أنماط تفكير ناتجة عن تقليد أعمى أو برمجة محكمة تجعل الأمور أعقد مما هي عليه في الواقع. هذا التعقيد يجعل الحياة أكثر إرهاقًا دون سبب وجيه ولا فائدة ترجى، ويمكن غالبًا تبسيطه أو إزالته.
  – أمثلة:
       > أسلوب الحياة المعقد: التشديد في المعايير دون أساس، كثرة الخيارات، الإفراط في الاستهلاك، وتعدد الالتزامات الاجتماعية تجعلنا نشعر بالإرهاق، بينما يمكن تبني نهج أكثر بساطة يركز على الأولويات.
       > المساطر الإدارية المعقدة: البيروقراطية الزائدة، مثل الحاجة إلى عشرات الوثائق لتقديم طلب بسيط، تجعل الأمور مكلفا دون فائدة حقيقية.

الحذر كل الحذر من فخ الاختزال المخل !!!

كثيرًا ما يقع الناس في خطأ مزدوج: تعقيد ما هو بسيط بطبيعته (التعقيد المصطنع) واختزال ما هو معقد في جوهره بدعوى التبسيط والتسهيل.هذا الاختزال المخل قد يؤدي إلى فهم سطحي للقضايا المحورية، مما يترتب عليه حلول مؤقتة أو غير فعالة بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية وخيمة.
  – أمثلة :
       > اختزال ريادة الأعمال في “امتلاك فكرة جيدة” وتوفير الموارد؛
       > اختزال النجاح الدراسي في الحصول على الشهادة؛
       > اختزال التربية والمواكبة في توجيه التعليمات؛

الاختزال المخل للتعقيد ينجم عن أسباب أعمق تختلف حسب الصنف الذي ينتمي إليه الشخص (نحيل القاريء على مقال “أصناف البشر الأربعة : كيف تكشف نظرية سيبولا سر تطور المجتمعات؟”) :
  – عند السفهاء والعجزة (الأغلبية) :
       > الجهل أو عدم الوعي
       > آليات الدفاع النفسي ومن أهمها : الإنكار (الأمر بسيط أصلا لماذا كل هذه التعقيدات)، التجنب، الانسحاب والتعويض.
  – عند الخبثاء :
       > التضليل
       > التلاعب

كيف نتعامل مع التعقيد الحقيقي؟

التعقيد الحقيقي، سواء كان بنيويًا مثل تركيبة جسم الإنسان، أو ديناميكيًا مثل حركة الأسواق، يشبه أحجية ضخمة تتطلب مهارات خاصة لفهمها وإدارتها. هناك ثلاثة تحديات أساسية كبرى يقابل كل منها قدرة ضرورية لكي يسهل علينا التعامل مع هذا النوع من التعقيد وإدارته بحكمة:

1- رؤية الصورة الكبرى

قبل البدء في التعامل مع أي تعقيد، يجب أولًا فهم السياق العام ومعرفة كيف تتفاعل الأجزاء المختلفة داخل النظام. تمامًا كما يحتاج لاعب الأحجية إلى رؤية الصورة النهائية ليرتب القطع بشكل صحيح، يحتاج من يحلل التعقيد إلى استيعاب العوامل المؤثرة والعلاقات المتبادلة بين مكونات المشكلة.

      >> مثال :

في الأسواق المالية، لا يمكن فهم تقلب الأسعار دون تحليل التفاعلات بين العرض والطلب، السياسات النقدية، والأحداث العالمية.

2- تفكيك الكل إلى عناصر بسيطة ثم إعادة تركيبها

بعد فهم الصورة الكبرى، يأتي التحدي الثاني: تفكيك التعقيد إلى عناصره الأساسية. أي نظام معقد يتكون من أجزاء أبسط، وتحليل كل جزء على حدة يسهل الفهم. لكن التحدي الحقيقي هو إعادة تركيب هذه الأجزاء في سياقها الصحيح دون فقدان العلاقة بينهما.

      >> مثال :

جسم الإنسان نظام معقد، لكن يمكن دراسته عبر تحليل كل عضو ووظيفته، ثم فهم كيفية تفاعل الأعضاء معًا للحفاظ على الحياة.

3- التّمكّن من كل عنصر بسيط على حدة

فهم كل جزء بمفرده لا يكفي، بل يجب الإلمام بكيفية عمل كل عنصر داخل النظام واستكشاف تأثيره على الكل. الفهم العميق لكل مكوّن يتيح التنبؤ بالتغيرات واتخاذ قرارات أكثر دقة وفعالية.

      >> مثال :

في إدارة الأعمال، لا يكفي فهم التسويق أو الإنتاج فقط، بل يجب إتقان تنسيق كل منهما مع جميع العمليات الأخرى لضمان التكامل وتحقيق النجاح.

”وكذلك كل مقال في هذه المدونة يمثل قطعة من أحجية كبرى للتعامل مع المشاكل.“

العوامل الكبرى التي تقيد القدرة على التعامل مع التعقيد

إن فهم التعقيد وحده لا يكفي لإدارته بذكاء، إذ تفاقمت في مجتمعنا ثلاثة عوامل سلبية رئيسية يمكن أن تقيّد القدرة على التعامل معه بفعالية:

1- ضعف القدرة على توجيه الانتباه والتركيز

يتطلب التعقيد تفكيرًا معمقًا وانتباهًا دقيقًا للتفاصيل المهمة، لكن في عصر التدفق المستمر للمعلومات، أصبح التركيز تحديًا حقيقيًا. الانتقال السريع بين المهام دون التعمق يؤدي إلى فقدان القدرة على رؤية الروابط بين العناصر المعقدة، مما يجعل معالجة المشكلات أكثر سطحية وأقل فاعلية.

2- دافع المكافأة العاجلة

يميل الكثيرون إلى البحث عن نتائج سريعة ومكافآت فورية بدلًا من الاستثمار في حلول طويلة الأمد. هذه العقلية تجعل من الصعب التعامل مع الأنظمة المعقدة التي تتطلب استراتيجيات متدرجة، صبرًا، وفهمًا تراكمياً لتحقيق نتائج كبيرة ومستدامة.

 فالطالب مثلا قد يركز فقط على النجاح في الامتحانات باستخدام الحفظ السريع دون بناء فهم حقيقي للمواد، مما يجعله غير قادر على تطبيق المعرفة في الحياة العملية.

3- الفردانية

غالبًا ما يتطلب التعقيد التعاون وتبادل المعرفة، لكن بعض الأفراد يصرون على حل المشكلات بمفردهم، مما يحد من قدرتهم على رؤية الصورة الكاملة والاستفادة من خبرات الآخرين. يؤدي هذا النهج إلى اتخاذ قرارات غير متوازنة أو ناقصة بسبب غياب زوايا نظر مختلفة.

إذا كان قائد مشروع يحاول إدارة كل شيء بنفسه دون إشراك فريقه ودون الاستشارة مع الخبراء في بيئته، غالبا ما ينهار المشروع بسبب غياب التنوع في الأفكار وعدم القدرة على معالجة المشكلات من زوايا متعددة.

ماهي أكبر التحديات المعقدة التي يواجهها أصحاب التعليم العالي في مجتمعنا اليوم؟

شاركنا أفكارك

Blog-FeedBack_ar10200002

التعقيد جزء لا مفر منه في عالمنا، لكنه ليس بالضرورة عائقًا، بل يمكن أن يكون فرصة للتطور والإبداع. التعامل معه بفعالية يتطلب رؤية الصورة الكبرى، تفكيكها دون اختزال مخل، وإدارة التفاصيل بذكاء. من أكبر التحديات أمام التعامل مع التعقيد ضعف التركيز، السعي للمكافآت العاجلة، والفردانية. الحل يكمن في تطوير القدرة على التعامل معه بمنهجية، صبر، وتعاون، وليس الهروب منه !🚀

ساهم في نشر هذا الفكر

مشروع التمكين

المساعدة على تذليل الصعوبات عبر تنمية القدرات

(Problem to Power)

تابع قناتنا على تلغرام

انضم لنادي رواد

Shopping Basket